السفير أحمد بن فضلان في أسفاره
يعد السفير أحمد بن فضلان أحد الرحالة القلائل من المسلمين الذين جابوا الأصقاع وقاموا بخدمات جليلة للإسلام في مناطق بعيدة ومترامية الأطراف. وهو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد، ولا يُعرف عن ميلاده شيء، إلا أنه كان حيًّا سنة 309 هـ. رحّالة مسلم جاب بلاد البلغار “بلاد الروس وجزء من شرق أوروبا“، وتطلق تسمية البلغار على الشعب الذي عاش في بلاد “القوقاز حاليًا“، وينتمون إلى أتراك آسيا الصغرى، فقدم وصفًا دقيقًا سواء من الناحية الجغرافية أو الاجتماعية، ويعد مرجعًا أساسيًّا لكلّ مَن درس تلك البلاد، وهو صاحب أقدم وصف لروسيا عند زيارته لها، وذلك عندما بعثه الخليفة العباسي “المقتدر بالله” لملك الصقالبة.
وتبدأ قصة ابن فضلان مع الرحلات، عندما طلب ملك الصقالبة– بلاد البلغار– من الخليفة المقتدر بالله، والذي تولّى الخلافة من 295 هـ إلى 319 هـ، أن يرسل له بعثة من العلماء لتفقيه شعبه وتعريفهم بشرائع الإسلام وتعاليمه، وهذا يدل على مدى تأثير الإسلام عالميًّا في النواحي السياسية والاقتصادية، وما تمتعت به الخلافة العباسية في ذاك الزمن من مكانة. ويتحدث “ابن فضلان” عن ذلك قائلاً:
كتاب ألمش بن يلطوار
“لما وصل كتاب “ألمش بن يلطوار” ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر، يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدًا، وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك، وكان السفير له نذير الحرمي، فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه، وتسليم ما أُهدي إليه، والإشراف على الفقهاء والمعلمين، وكان الرسول إلى المقتدر من صاحب الصقالبة رجلاً يقال له عبد الله بن باشتو الخزري، والرسول من جهة الخليفة هو سوسن الرسي مولى “نذير الحرمي“، و“تكين التركي“، و“بارس الصقلابي“، وأنا معهم على ما ذكرت، فسلمت إليه الهدايا له ولامرأته ولأولاده ولإخوته وقواده، وأدوية كان كتب إلى نذير يطلبها“.
وصف ابن فضلان بلاد الترك وطباع أهلها فقال: “ولا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك، وليس بينهم وبين الماء عمل، خاصةً في الشتاء، ولا تستتر نساؤهم من رجالهم ولا من غيرهم، كذلك لا تستر المرأة شيئًا من بدنها عن أحد من الناس“. مما يعطنا انطباعًا بأن هذه البلاد لم تعرف أيّ نوع من التحضر، وقد تحدث ابن فضلان عن الطبيعة الجغرافية للنواحي المتاخمة لنهر “جيحون“، فيقول: “رأينا بلدًا ما ظننا إلا أن بابًا من الزمهرير قد فُتح علينا منه…”.
بلاد الصقالبة من وصف السفير أحمد بن فضلان
كما يصف لنا ابن فضلان طبيعة بلاد الصقالبة وصفًا دقيقًا، فقال عنها: “ورأيت لهم تفاحًا أخضر شديد الخضرة، وأشد حموضةً من خلّ الخمر، وتأكله الجواري فيسمنّ عليه، ولم أرَ في بلدهم أكثر من شجر البندق ورأيت لهم شجرًا لا أدري ما هو، مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ورؤوسه كرؤوس النخل، له خوص دقيق، إلا أنه مجتمع، يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه.
فيثقبونه ويجعلون تحته إناء، فتجري إليه من ذلك الثقب ماءٌ أطيب من العسل، إن أكثر الإنسان منه أسكره كما يُسْكِر الخمر، وكلّ مَن زرع شيئًا أخذه لنفسه وليس للملك فيه حق، غير أنهم يؤدون إليه في كل سنة من كل بيت جلد سمور “حيوان بريّ” وإذا أمر الملك سَريّة بالغارة على بعض البلدان فغنمت، كان له معهم حصة“.
ويصف ملكهم فيقول: “ولا ينزل عن سريره، فإذا أراد قضاء حاجة، قضاها في طشت، وإذا أراد الركوب قدموا دابته إلى السرير فركبها منه، وإذا أراد النزول قدّم دابته حتى يكون نزوله عليه“.
وكان ابن فضلان داعية للإسلام ينتهز الفرص والمواقف الدعوية، وإذا وجد ما يخالف الإسلام استغفر ربه وسبّح، ولم يقتصر جهده على مجرد زيارة الملوك، فكان جنديًا من جنود الله في تلك الأراضي. وهكذا يعد ابن فضلان حلقةً تاريخيّةً مهمةً في تاريخ التواصل الحضاري الإسلامي والغربي، والمتمثلة في حضارة البلغار والخزر.